الأحد، 4 مارس 2012

خبر عاجل - قصة قصيرة

 

- فلسطين 2001 .

- القدس الشرقية .

في طريقه إلى الموت كانت الأفكار تنداح في ذاكرته، تجوس في داخله، تعبث به.

- الموت قاب قوسين أو أدنى .

قال ذلك وهو يتحسس حزام المتفجرات الذي يتمنطق به، ويعيد تثبيته حول خاصرته بإحكام..الجرافات تلتهم البيوت في نهم، وزخات الرصاص المجنون تنهمر في غزارة، تقتل، تصيب، تحرق الأجساد الغضة، تستقر في بطون الحوامل، تزهق الأجنة القادمة... والعالم صامت !!


الصور القاتمة كانت حاضرة في نفسه وهو يأخذ مكانه في الحافلة، وينتبذ لنفسه ركناً قصياً منها، ويغوص في بحر لا ينضب من الذكريات الموجعة :


- أخي أحرقوه حياً، أبي داسوه تحت أقدامهم القذرة، ابن أختي عذبوه حتى لفظ أنفاسه الأخيرة... والعالم صامت !!

كانت الحافلة مكتظة بالركاب، الأجساد متلاصقة، والأنفاس متلاحقة، روائح القردة أخذت تزكم أنفاسه حتى كادت تصيبه بالغثاء، لاذ بالصمت وآوى إلى نفسه يمضغ الصبر ويجتر مشاهد المأساة:

- (الدرة) قتلوه بدم بارد، والعالم ينظر بعينين اسمنتيتين، والعرب يبحثون القضية حول موائد الكلام.. رحماك يا رب!

توقفت الحافلة أمام مطعم المدينة، الزحام الشديد يملأ المكان، صراخ السيارات يختلط بأصوات الباعة، أحسّ بنشوة عارمة تسري في جسده، انتفض، وقف دفعة واحدة، افترَّ ثغره عن ابتسامة عريضة، أسرع للخروج من الحافلة وغاب في زحام المدينة.

أدرت مؤشر المذياع، كانت عقارب الساعة تتصافح عند الواحدة ظهراً، خبر عاجل من الأراضي المحتلة: «عملية استشهادية جديدة تودي بالعشرات من اليهود، بينهم منفذ العملية».

المحرم 1424هـ * مارس 2003م

هـــدهـــدات - قصة قصيرة


للتو انتهت الكشف على الحالة ، ناولتها ( روشتة ) الدواء ثم شيعت مريضتها بابتسامة صفراء لا حياة فيها ، حررت قدميها ويديها قليلاً وألقت برأسها على مؤخرة الكرسي وأخذت تستنشق هواء الغرفة المشبع برائحة الأدوية .
- ياه .. الغرفة تحتضر اليوم .
دارت بالكرسي حول نفسها ، لمحت صورة طفل صغير مثبتة أمامها على جدار الغرفة .
استوقفتها الصورة ، أطلقت حماليق عينيها وبدت تلتلهمها في نهم ، دمعة مكظومة جثمت على أهدابها .
طرق خفيف على الباب ، فتاة تستأذن بالدخول ، اعتدت جالسة ثم أذنت لها .
- أرجوك يا دكتورة هل لي أتحدث قليلاً ؟
هزت رأسها بالموافقة .
- أنا فتاة في العشرين ربيعاً أبدو كالزهرة أليس كذلك ؟!
ابتسمت في تصنع مكشوف .
- لكنني ذابلة ، بالرغم من أنني أعيش وسط حديقة غناء ، أمي ، وأبي يكلآنني برعايتهما ، زوجي يتعذب من أجلي .
- مريضتنا مم تشكو ؟
- من طفلي ..
لسعتها الإجابة ، أفقدتها توازنها ، لم تكن تنتظره حبات العرق أخذت تحتشد على جبهته ، تحسست منديلها واستعادت هدوءها ثم بادرت قائلة :
- المعذرة يا سيدتي .. لم أفهم ؟
- ومن سيفهم إذن ؟ .. سنوات وأنا أنتظره على قارة حلم ، أشاهده أمسك به أطبع على جبهته المتوردة قبلة حارة إلثمه قبلات ، أهدهده لينام ..
- لكن ..
- لكنه حلم .. نعم إنه حلم ..
- سيدتي ..
- بل أنت سيدتي ، أنت منقذتي ..
إني أتشبث بك ، أقبل يديك ، سأدفع لك ما تريدين ، أرجوك جعلي من حلمي حقيقة ..
- لكنني لا أخلق الأطفال .. ربي الذي يفعل ذلك .. فقط توجهي له بالدعاء .
- عزيزتي .. أرجوك كيف يمكن لي أن أعيش بدون طفل .. بدون ماما ؟
- بل أنا الذي أرجوك أن تصمتي لقد نكأتي جرحي وأدميت مشاعري ..
- أنا مثلك يا عزيزتي لا أنجب الأطفال ..

وللحياة أبواب أخرى - قصة قصيرة



- إلى أبناء بلدي الذين أوصدت الحياة أبوابها في وجوههم .. مهلاً .. لا تراعوا فثم للحياة أبواب أخرى .
في الطريق إلى المدينة ، كنت سارح البال ، شارد الذهن ، الأفكار تنداح في مخيلتي وبقايا من أحلام اليقظة تتصارع في ذاكرتي ، كنت أعانق بناظريّ المشاهد الجميلة على جانبي الطريق ولكن سرعة السيارة ما كانت تسعفني حتى أحدق ملياً في هذه المشاهد الرائعة .
أحياناً كانت تتوقف السيارة لتحمل المزيد من الركاب ، أو يترجل بعضهم عن ظهرها ، كانت الزيادة المفرطة في عدد الركاب ، والأجساد المتلاصقة والأنفاس المتتابعة من بعضهم تبعث في السيارة رائحة كريهة فكنت أخرج رأسي من نافذة السيارة معلناً احتجاجي عل هذا الوضع ، ولكن السائق كان ذكياً إلى درجة أنه فهم مرادي فبادرني بقوله :
- أرجو أن تتحمل من أجلي ، فزيادة الركاب تعني زيادة الأجر ، وهذا مهم لشاب مثلي .
كانت دهشتي منه ، هي الدافع إلى تطفلي عليه ومجاراته في الحديث فقلت له :
- حدثني عن نفسك يا أخي ؟
نظر إليّ بصمت ثم كشف عن ابتسامة خفيفة ، وهز راٍه ولكنه استدرك :
- فيما بعد ، فأنت آخر راكب سأوصله إلى المدينة والطريق طويل .
كان شاباً نحيل الجسم ، قمحي البشرة نظارته أحدثت له علامة فارقة حول عينيه ، أنفه الطويل يكاد يلامي شاربه الكث الممتد على طول فمه الصغير جداً ، وجهه الدائري يذكرني دائماً بأحد نجوم السينما القدامى .
توقفت السيارة أخيراً ليترجل عن ظهرها آخر راكب عند تقاطع ( 2 ) نظر إليّ مرة أخرى .
كانت ملامح وجهه قد تغيرت ، خيوط من الغضب بدأت ترتسم على وجهه وتباشير الحزن قد بدأت واضحة في ملامحه ، عندها قلت بلهفة :
- قلي بربك ما وراء هذا الوجه العابس ؟
- وراءه قصة طويلة .
- إني في شوق إلى سماعها .
أمسك بمقودة السيارة وزفر زفرة قوية ، وكأنه يطلقها من فوهة بركان على وشك الثوران ، ثم قال بعد أن أخذ مساره الصحيح في الطريق إلى المدينة :
" .. قبل سنتين كنت طالباً في الجامعة ، في المستوى الرابع ، في قسم الإعلام ، لقد كنت طالباً متفوقاً ، الأحلام السعيدة تتراقص أمام مخيلتي ، والمستقبل المشرق ينتظرني ، كان حلمي بأن أصبح مذيعاً يشار إليه بالبنان هو الحلم الذي أسعى إليه / البرامج الكثيرة ، والمقترحات والأفكار التي كانت تنداح في ذاكرتي كما ينداح حجر الرحى ، وتخرجت من القسم وبتقدير ( ممتاز ) فكان بيني وبين حلمي خطوات ويصبح ( عبد الله العلي ) أشهر مذيع محلي وربما علماي من يدري ؟ .. وتوقف صديقي عن متابعة الكلام كانت دورية المرور تقوم بعملها وسط الشارع ، كانت الرخصة قديمة قد انتهت صلاحيتها ولم يجددها صديقي بعد ، ولم تشفع توسلات صديقي في أن يشمله رجل المرور الذي سخر منه صاحب سيارة أجرة ولا يملك قيمة تجديد رخصة .
- صدقني لا أملك ذلك ، لا أملك شيئاً أبداً .
- خذ هذه القسيمة ، فربما تعلم درساً لن تنساه أبداً .
وبعد ذلك واصلنا سيرنا إلى المدينة ، كان صديقي يتمتم بآيات الغضب على رجال المرور .
- إنهم لا يفهمون شيئاً ، نعم صاحب سيارة أجرة ولا يملك شيئاً أقسم أني لا أمك قوت يومي أحياناً
لفني شيء من الخجل أن أقول له أكمل ما بدأته ، إلا أنه كان ذكياً كما توقعت فواصل حديثه :
- حسناً يا صديقي .. وتخرجت من الجامعة إلا أن عميد الكلية رفض أن يعطيني ( وثيقة التخرج ) وعندما زرته في مكتبه أظهر لي حفاوة رائعة إلا أنه سرعان ما كشف لي عن مراده :
- الحقيقة أنني أطمع في موافقتك على الإعادة في القسم .
فرفضت ذلك بشدة ، متعللاً بالحلم الذي أسعى إليه منذ زمن ، برغم محاولاته ، إلا أنني رفضت كل محاولاته ، فقال لي عندها :
- ستندم حيث لا ينفع الندم .
في الطريق إلى التلفاز كانت أحلامي تعاود الرقم أمامي ، والشهرة تفتح ذراعيها لتتأبطني ، وقابلت مدير التلفاز ، كانت دهشتي من ذلك البرود الذي قابلني به ، إنه لم يكلف نفسه بالنظر إلى تقديري ، واعتذر عن قبولي متعللاً بأعداد الشباب التي تريد العمل في الإعلام ، لم أطل الصمت طويلاً بل واجهته :
- ألم تصرح بأنكم في حاجة إلى دماء جديدة ؟
- فلماذا تريدوننا إذن ؟
نظر إليّ بحزن وأشار إليّ بالخروج ، أظلمت الدنيا في وجهي وأنا اغادر مكتب المدير إلا أن بصيص أمل بدا وأنا أشاهد الأستاذ / قاسم القاسم صاحب البرنامج الشهير ( هموم محلية ) إن كلماته ما زال صداها يتردد في ذاكرتي وهو يقول في نهاية كل حلقة من حلقات برنامجه الشهير :
- لقد جندت نفسي لهموم الناس ومشاكلهم ، فقد اتصلوا بي أو تفضلوا بزيارتي .
استوقفته في أحد ممرات التلفاز ، رمقني بنظرة ملأها الإحتقار .. فقلت له :
- أنا من الناس الذين جندت نفسك لهمومهم ومشكلتي ..
تركني لذهولي ودهشتي ، إلا أنني سمعته يتمتم من بعيد : مساكين يصدقون كل ما يذاع .
خرجت من مبنى التلفاز ، وأنا شبه محطم ، في البيت كان أبي يطالبني بالعمل ، ألسنة الناس لم ترحمني ، الجميع يخوض في سيرتي وما ألت إليه كنت أبحث عن أي عمل إعلامي ، فل التلفاز في الإذاعة ، في الصحافة بل لقد وصل ولعي بالإعلام أن أعمل مراسلاً في جهات الحرب ومواطن المجاعة ، إلا أن شمس أحلامي قد غربت ، وأصبحت الشهادة كالعار الذي يلاحقني ، فكرت بالعودة إلى الجامعة والإعادة فيها ولكن سيلاً من السخرية قابلني به عميد الكلية ، وكدت أصاب بصدمة نفسية ، لولا وقوف بعض الأصدقاء وشرائهم لي سيارة ، بعد أن سلمت أوراقي ديوان الخدمة في انتظار الوظيفة .. " .
من بعيد كانت المدينة وكأنها مدينة سحرية تخرج من قاع الأرض ، نظرت إلى صديقي وهو يعيد نظارته القديمة إلى عينيه وقد أسبل بعض دموعه الحارة ، وصلنا المدينة ودفعت له أجرته ثم وقفت أشيعه بنظراتي وهو في طريق العودة ، ثم عدت إلى منزلي يلفني ضجيج المدينة وزحامها الشديد .