الأحد، 4 مارس 2012

وللحياة أبواب أخرى - قصة قصيرة



- إلى أبناء بلدي الذين أوصدت الحياة أبوابها في وجوههم .. مهلاً .. لا تراعوا فثم للحياة أبواب أخرى .
في الطريق إلى المدينة ، كنت سارح البال ، شارد الذهن ، الأفكار تنداح في مخيلتي وبقايا من أحلام اليقظة تتصارع في ذاكرتي ، كنت أعانق بناظريّ المشاهد الجميلة على جانبي الطريق ولكن سرعة السيارة ما كانت تسعفني حتى أحدق ملياً في هذه المشاهد الرائعة .
أحياناً كانت تتوقف السيارة لتحمل المزيد من الركاب ، أو يترجل بعضهم عن ظهرها ، كانت الزيادة المفرطة في عدد الركاب ، والأجساد المتلاصقة والأنفاس المتتابعة من بعضهم تبعث في السيارة رائحة كريهة فكنت أخرج رأسي من نافذة السيارة معلناً احتجاجي عل هذا الوضع ، ولكن السائق كان ذكياً إلى درجة أنه فهم مرادي فبادرني بقوله :
- أرجو أن تتحمل من أجلي ، فزيادة الركاب تعني زيادة الأجر ، وهذا مهم لشاب مثلي .
كانت دهشتي منه ، هي الدافع إلى تطفلي عليه ومجاراته في الحديث فقلت له :
- حدثني عن نفسك يا أخي ؟
نظر إليّ بصمت ثم كشف عن ابتسامة خفيفة ، وهز راٍه ولكنه استدرك :
- فيما بعد ، فأنت آخر راكب سأوصله إلى المدينة والطريق طويل .
كان شاباً نحيل الجسم ، قمحي البشرة نظارته أحدثت له علامة فارقة حول عينيه ، أنفه الطويل يكاد يلامي شاربه الكث الممتد على طول فمه الصغير جداً ، وجهه الدائري يذكرني دائماً بأحد نجوم السينما القدامى .
توقفت السيارة أخيراً ليترجل عن ظهرها آخر راكب عند تقاطع ( 2 ) نظر إليّ مرة أخرى .
كانت ملامح وجهه قد تغيرت ، خيوط من الغضب بدأت ترتسم على وجهه وتباشير الحزن قد بدأت واضحة في ملامحه ، عندها قلت بلهفة :
- قلي بربك ما وراء هذا الوجه العابس ؟
- وراءه قصة طويلة .
- إني في شوق إلى سماعها .
أمسك بمقودة السيارة وزفر زفرة قوية ، وكأنه يطلقها من فوهة بركان على وشك الثوران ، ثم قال بعد أن أخذ مساره الصحيح في الطريق إلى المدينة :
" .. قبل سنتين كنت طالباً في الجامعة ، في المستوى الرابع ، في قسم الإعلام ، لقد كنت طالباً متفوقاً ، الأحلام السعيدة تتراقص أمام مخيلتي ، والمستقبل المشرق ينتظرني ، كان حلمي بأن أصبح مذيعاً يشار إليه بالبنان هو الحلم الذي أسعى إليه / البرامج الكثيرة ، والمقترحات والأفكار التي كانت تنداح في ذاكرتي كما ينداح حجر الرحى ، وتخرجت من القسم وبتقدير ( ممتاز ) فكان بيني وبين حلمي خطوات ويصبح ( عبد الله العلي ) أشهر مذيع محلي وربما علماي من يدري ؟ .. وتوقف صديقي عن متابعة الكلام كانت دورية المرور تقوم بعملها وسط الشارع ، كانت الرخصة قديمة قد انتهت صلاحيتها ولم يجددها صديقي بعد ، ولم تشفع توسلات صديقي في أن يشمله رجل المرور الذي سخر منه صاحب سيارة أجرة ولا يملك قيمة تجديد رخصة .
- صدقني لا أملك ذلك ، لا أملك شيئاً أبداً .
- خذ هذه القسيمة ، فربما تعلم درساً لن تنساه أبداً .
وبعد ذلك واصلنا سيرنا إلى المدينة ، كان صديقي يتمتم بآيات الغضب على رجال المرور .
- إنهم لا يفهمون شيئاً ، نعم صاحب سيارة أجرة ولا يملك شيئاً أقسم أني لا أمك قوت يومي أحياناً
لفني شيء من الخجل أن أقول له أكمل ما بدأته ، إلا أنه كان ذكياً كما توقعت فواصل حديثه :
- حسناً يا صديقي .. وتخرجت من الجامعة إلا أن عميد الكلية رفض أن يعطيني ( وثيقة التخرج ) وعندما زرته في مكتبه أظهر لي حفاوة رائعة إلا أنه سرعان ما كشف لي عن مراده :
- الحقيقة أنني أطمع في موافقتك على الإعادة في القسم .
فرفضت ذلك بشدة ، متعللاً بالحلم الذي أسعى إليه منذ زمن ، برغم محاولاته ، إلا أنني رفضت كل محاولاته ، فقال لي عندها :
- ستندم حيث لا ينفع الندم .
في الطريق إلى التلفاز كانت أحلامي تعاود الرقم أمامي ، والشهرة تفتح ذراعيها لتتأبطني ، وقابلت مدير التلفاز ، كانت دهشتي من ذلك البرود الذي قابلني به ، إنه لم يكلف نفسه بالنظر إلى تقديري ، واعتذر عن قبولي متعللاً بأعداد الشباب التي تريد العمل في الإعلام ، لم أطل الصمت طويلاً بل واجهته :
- ألم تصرح بأنكم في حاجة إلى دماء جديدة ؟
- فلماذا تريدوننا إذن ؟
نظر إليّ بحزن وأشار إليّ بالخروج ، أظلمت الدنيا في وجهي وأنا اغادر مكتب المدير إلا أن بصيص أمل بدا وأنا أشاهد الأستاذ / قاسم القاسم صاحب البرنامج الشهير ( هموم محلية ) إن كلماته ما زال صداها يتردد في ذاكرتي وهو يقول في نهاية كل حلقة من حلقات برنامجه الشهير :
- لقد جندت نفسي لهموم الناس ومشاكلهم ، فقد اتصلوا بي أو تفضلوا بزيارتي .
استوقفته في أحد ممرات التلفاز ، رمقني بنظرة ملأها الإحتقار .. فقلت له :
- أنا من الناس الذين جندت نفسك لهمومهم ومشكلتي ..
تركني لذهولي ودهشتي ، إلا أنني سمعته يتمتم من بعيد : مساكين يصدقون كل ما يذاع .
خرجت من مبنى التلفاز ، وأنا شبه محطم ، في البيت كان أبي يطالبني بالعمل ، ألسنة الناس لم ترحمني ، الجميع يخوض في سيرتي وما ألت إليه كنت أبحث عن أي عمل إعلامي ، فل التلفاز في الإذاعة ، في الصحافة بل لقد وصل ولعي بالإعلام أن أعمل مراسلاً في جهات الحرب ومواطن المجاعة ، إلا أن شمس أحلامي قد غربت ، وأصبحت الشهادة كالعار الذي يلاحقني ، فكرت بالعودة إلى الجامعة والإعادة فيها ولكن سيلاً من السخرية قابلني به عميد الكلية ، وكدت أصاب بصدمة نفسية ، لولا وقوف بعض الأصدقاء وشرائهم لي سيارة ، بعد أن سلمت أوراقي ديوان الخدمة في انتظار الوظيفة .. " .
من بعيد كانت المدينة وكأنها مدينة سحرية تخرج من قاع الأرض ، نظرت إلى صديقي وهو يعيد نظارته القديمة إلى عينيه وقد أسبل بعض دموعه الحارة ، وصلنا المدينة ودفعت له أجرته ثم وقفت أشيعه بنظراتي وهو في طريق العودة ، ثم عدت إلى منزلي يلفني ضجيج المدينة وزحامها الشديد .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق