الثلاثاء، 21 فبراير 2012

نزيل الغرفة ( 9 ) - قصة قصيرة


قال – صلى الله عليه وسلم - : " إن على الله عز وجل عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال " قالوا : وما طينة الخبال ؟ قال : " عصارة أهل النار " .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
شمس الغروب تجمع آخر خيوطها وترحل في صمت والمساء يلف المدينة بردائه الأسود المهيب ، وقد تلبدت السماء بالغيوم التي أخفت بريق النجوم وضوء القمر المتهالك برق يضيء أطراف المدينة ، ورعد ينذر بأمطار غزيرة ، وما تلبث السماء أن ترسل هداياها بسخاء ، الأمطار تضرب نافذة الغرفة ( 9 ) – من مبنى دار الأحداث – بعنث محدثة جلبة مزعجة ..
في الداخل كان شاحب الوجه ، أنفاسه المتصاعدة تتسابق للخروج من داخله المحترق وقد تكون على نفسه في زاوية مظلمة ، وبدأ يصرخ في حدة :
-         لماذا يا أبي ؟ .. لماذا ؟ .. لماذا ؟
هدأت العاصفة ، وخف المطر ، وأخذ يضرب النافذة ببطء وكأنه يعزف ألحاناً هادئة أخذت تتسلل إلى نفسه فتشعره بالراحة ، سار بخطواته المترنحة قليلاً ثم ألقى بجسده المنهك على كرسيهن وأرسل عينيه عالياً لتعانق سقف الغرفة ، وأخذ يجتر ماضيه القريب في مرارة : " جميلة كل الجمال كانت قريتي وهي تحتضن الوادي وتنام في سلام ، أزقتها الضيقة أبنيتها المتلاصقة ، تلاصق قلوبهم البيضاء بياض الثلج ، كنت طالباً في الثانوية العامة متفوق في دراستي ، إليَّ تتجه الأنظار لأكون طبيباً أخدم قريتي ، وأعالج أهلها ، كان هذا حلمي الذي أقتاته كل ليله ، كان أبي محل حفاوة الأهالي وثقتهم وقد اختاروه أمينا لصندوق القرية وأقام أول أمس حفلاً بهيجاً وعشاءً دسماً لمناسبة حصوله على قطعة أرض في المخطط الجديد حضره جميع الأهالي وكانت ليلة رائعة لا تنسى .
كل شيء في قريتي كان جميلاً وهادئاً ، وعجلة الحياة تدور في أمان ، وأنا أسير نحو حلم الجميع بخطى ثابتة وعيون ترمق المستقبل المشرق ، وذات ليلة حدث شيء غريب حقاً !!
بدأت الوساوس تأخذ طريقها إلى نفسي ، والشيطان يلعب بي كدمية صغيرة ، أمي قبعت بجانبي ، تمضغ الصمت وتبكي في حرارة ، عقارب الساعة تتصالح عند الرابعة صباحاً ، كان أبي يترنح في مشيته ويهذي كالمخمور عندما دخل علينا ، لكن الفرحة بوصوله كبيرة أنستنا كل شيء إلا أن أمي بادرته قائلة :
-         أين كنت لقد قلقنا عليك كثيراً وخرج الرجال يبحثون عنك .
وزع نظراته الغاضبة علينا ثم صرخ في حدّة :
-         وهل أنا رضيع حتى تخافوا عليّ .. لا أريد لهذه المهزلة أن تتكرر ، قال ذلك وهو يغيب في ظلال غرفة وسط ذهولنا ودهشتنا .
في اليوم التالي اكتشفت الحقيقة .. لقد كانت الحقيقة مرة والصدمة مروعة ، إن أبي يتعاطى الخمر ، نعم إنه الخمر ذلك الشراب المحرم الذي فتك بعقله وأفقده دينه .. يالله وماذا أفعل ، إنني أعيش صراعاً رهيباً مع نفسي ، مئات من الأسئلة تحاصرني ، تعصف بعقلي ؛ إنه أبي .. القاتل والمقتول .. المجرم والضحية .. أبي .. ماذا أفعل من أجله .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق