- لقد وصلنا بحمد الله .
تمتم خالي بهذه الكلمات ونحن على مشارف القرية . كان الليل يمد رواقه في صمت والقرية تغط في سبات لذيذ ، دلفت إلى منزلي فكان المشهد مهيباً ، نساء يقفن أمام غرفتي في نصف دائرة يجلسن القرفصاء يلتحقن وشاحاً أسود، الوجوه كالحة والعيون غائرة ، راعني المشهد ، ففضلت الإنسحاب في سكون .
- جدتك تحتضر . قالتها أمي ثم قفلت راجعة إلى نصف الدائرة ، كانت وسطهن مذهولة ’ الدموع تغادر محاجرها مسرعة ، خالتي هي أيضاً زمت شفتيها ودعت الحديث لدموعها ، وبينهن وقفت الشاعرة ترسل مراثي حزينة تسبق بها الحدث :
لفى عليك اللفى
لافى الرجال والنساء
الرجال يتدافعون إلى المنزل بانتظام يستقبلون الموت ، ينتظرون الجنازة .
- لكن جدتي لم تمت بعد .
- إنها تحتضر .
- الأعمار بيد الله .
- أصمت . قالها أحدهم وهو يوجه جموع الرجال إلى المقبرة إستعداداً للحفر .
- بسرعة الغسالة . قالت أمي وهي تحبس دموعها تختزنها للحظة الحاسمة ، فأجبت متباطئاً .
- هل ماتت جدتي ؟
- تعال وانظر .
- في غرفتي الصغيرة كانت جدتي تتوسط المكان وحولها كانت تسكن أعواد الكادي والريحان ، رائحة زكية تعطر الغرفة .
- هل هذه رائحة روح جدتي ؟ سألت احداهن فأجابت في خشوع مصطنع :
- اصمت الملائكة هنا . ثم ولت وجهها شطر القبلة وهي تتمتم بكلمات غريبة .
كانت جدتي تتنفس بصعوبة صدرها يعلو ثم يهبط في حركة سريعة ، شخصت ببصرها نحو السقف ، الوجه القمحي بدأ يتصبب عرقاً ، يالله .. كم تعبت هذه المسكينة آخر مرة تحدثت إليها في المستشفى كانت أحلامها كبيرة .
- اللهم ارحمها .. اللهم ارحمها .. قلت في نفسي .
جاء صوت احدهم قوياً من الخارج .
- القبر جاهز .
ثم اردفت احداهن في تذمر واضح :
- الغسالة تنتظر .
- كل شيء جاهز .
الليل يمد رواقه في سكون والنساء يتدافعن إلى الداخل والصمت يطبق على المكان لكن جدتي مازالت تحتضر. * بقلم / محمد علي البدوي
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق