الثلاثاء، 21 فبراير 2012

أقوى من الصمت - قصة قصيرة


" إلى فرسان الإرادة في زمن الإعاقة مع التحية "
    في غرفته الصغيرة المظلمة على سطح الدار ، كأن أنينه المتقطع يخترق حاجز الصمت ، الظلام الحالك الذي يخنق الغرفة لم يفتح شهيته للنوم ، تقدم بخطوات مثقلة إلى نافذته المهترئة ، فتحها فتدافع الهواء إلى داخل الغرفة .. في داخله كان يعتلج شعور قوي ورغبة عارمة في الكلام ، لكن رغبته تلك كانت تتلاشى عندما تصطدم بصخرة الحقيقة .
-   أن أخرس " حسن الأخرس " لن أنطق ! ، لن أنطق أبداً .. هكذا كان يقول في نفسه ، جيوش من الحسرة تعسكر في داخله ، وألم الحقيقة يعتصر فؤاده ، لكن الرضا بالقضاء كان ينزل كالبرد على قلبه المثقل بالهموم وبخطواته المثقلة عاد ليلقي بجسده المنهك على سرير قديمة صدِئة ، وقد استجاب لنوم عميق ..
   أشعة الشمس تنفذ من خلال شقوق الغرفة المتهالكة ، والصمت يطبق على المكان ، كل شيء صامت وكأنهن قُدَّ من صخر ، كل شيء يحتضر في هذه الغرفة الملعونة ، بينما صور الماضي لم تزل تنداح في ذاكرته بعد أن أفاق من نومه وشخصت عيناه إلى سقف الغرفة ، كان الماضي الجميل يعاود الرقص أمام عينيه ، عشّه الصغير في أطراف المدينة ، أبوه يلفه في حنان ، سحب السعادة وهي تلقى بظلالها على الأسرة ، لكن الحال لم يدم ، والموت يخترم الأب في صمت ، عندها توقفت الكلمات على لسان الصغير ، بينما لم تزل المشاعر حيّة نابضة عبر شرايين الحياة .
    الدموع تملأ محاجر العين حارة حارقة ، والغرفة لم تزل صامتة ، بينما عبث الفئران يطول السرير الصدئة والصغير لا يأبه بذلك ، فصور الماضي لا زالت تنداح في ذاكرته كما ينداح حجر الرحى ... صعبة ! قاسية !! تلك هي الحياة ! .. أمه المسكينة حين قبلت بالزواج من رجل غليظ ، منظر أمه وهي ترزح تحت سياط الجلاد ، وهي تأتيه ببقايا طعام المتسلّط !! تحتضنه ، تضمه في حنان ، تغسله بدموعها الحارة ، المشهد المؤثر لم يزل عالقاً في الذاكرة ..
     هو لا يعلم ما سر هذه الابتسامة التي رُسمت على شفتيه عندما شاهد حجراً لأول مرة على شاطئ المدينة ، ربما لأن صورة الحجر ذكّرته بصورة لن ينساها ، أمخسك بالحجر ، أخذ يقرأ فيه معالم ماضي جميل ، اتسعت ابتسامته ، ثم أخذ مطرقة كان يحملها وبدأ ينحت على الحجر صورة عمه المتسلط ، نظر إليه باشمئزاز ، رماه في الشاطئ بقوة ثم تنهّد بارتياح / كانت عيناه تعانق صخور الشاطئ المترامية هنا وهناك كالموتى ، ضحك .. قهقه عالياً ثم غاب في زحام المدينة ، بينما كان صوت ارتطام أمواج الشاطئ بالصخور يعزف مقطوعة وداعية حزينة !! .
   لم يعد " حسن الأخرس " يطيق الجلوس في غرفته ، فقد اعتاد الجلوس على شاطئ المدينة وسط أحجاره الصماء ، حيث يمارس هوايته الجديدة كان ينحت على الأحجار صوراً عديدة ، صورة أمه وأباه ، وعمّه المتسلط ، شعور بالحب تجاه هذه الصخور بدأ يدب في نفسه ، وينمو في داخله ، ربما لأنها صماء لا تقوى على الكلام مثله ، صدى طرقه يتردد في جنبات المكان وكأنها أنغام جميلة تبعث في نفسه السعادة ، بينما ظلت عيون مدير المتحف القومي تلحظه من بعيد ..
    وتمضي الشهور وتتعاقب السنين ، ونجم " الأخرس " يسطع في سماء المدينة ، وتتحدث صحف اليوم عن معرض " فن النحت " " للفنان الكبير " " حسن الأخرس " .. !!

محمد علي البدوي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق